حياة القرية

   في القرية هدوء، وسكينة، لا تلقيهما في المدينة، حيث الضجيج والصخب والضوضاء، تنهك الأعصاب وتهدّ البدن هدًّا. في القرية الحرّيّة! فيها الهواء، طلق، لا توقفه حواجز المباني الشاهقة ولا "ناطحات السحاب"؛ ولا تعترضه الأسوار في حقولها الفسيحة المخضرَّة وغاباتها أستطيع أن أتنزّه، لا يُعيقني عائق، وأتنقّل في بساتينها، صبحًا وعصرًا ومساءً، أتّخذ من أشجارها الوارفة الظلال شمسيَّة تظلّلني وتقيني أذى الشمس المحرقة، وأجعل من أعشابها فراشًا أضطجع فوقه ساعة القيلولة لأستريح، وأنهض لَمَّا يزول عنِّي تعبي، فأحمل بندقيّتي وأتجوّل في البراري، أقتنص الطيور في الأوقات المباح فيها الاقتناص والصيد، وأعود إلى البيت، حين تحلو لي العودة، وأنا مرتدٍ ثيابي البسيطة، المتوافقة مع بساطة الطبيعة المتواضعة.

   وفي القرية بهجةٌ للعيون، وسرورٌ للأفئدة، وجمال لا يحسن تصويره غير نوابغ أهل الفنّ. هناك الأشجار المتنوّعة الأجناس والألوان والروائح العطريَّة، تغرِّد الأطيار على أفنانها، وتطربنا بساحر ألحانها، فأُصغي فيها إلى البلابل والحساسين والشحارير والحجال، وأطرب لطربها، وأفرح برفيف أجنحتها.

   مروجها الخضراء وحقولها في الربيع، تشبه السجّاد العجميّ والبسط المزركشة، وتأخذ بمجامع القلوب؛ وخرير أنهارها وجداولها وسواقيها يطرب أذنيَّ، كما تطربهما زقزقة العصافير وتغاريدها، فأنتشي بها. في الصباح الباكر أرى ثيرانها وأبقارها وقطعان غنمها وماعزها، وأسمع خوارها وثغاءَها، وهي منطلقة إلى المراعي أو هارعة إلى موارد المياه أو صادرة عنها، مضافًا إليها أنغام مزامير الرعاة وشبَّاباتهم و "مجاوزهم"، فأتذكّر عندئذ زمامير سيَّارات المدينة، وقرقعات درّاجاتها البخاريّة المزعجة، وأصوات بائعيها التافهة، وأقابل بينهما وبين الجوقة المطربة التي تشكّلها طيور ومواشي وجداول الريف الساحرة!

   في القرية عيشة الراحة، والدعة التي لا تكلُّف فيها؛ هناك يعيش الإنسان على سجيّته على الغالب، لا يغرّه جميل المآزر ولا لألأة الحُلي ولا تجعيد الشعر وتصفيفه، ولا تطريف الأظافر ودلك الوجوه.

   فيها العافية، التي لا تُطعم الطبيب خبزًا، ولا تنفخ له جيبًا؛ شمس ساطعة نقيَّة مطهّرة، لا يخالط أشعتها غبار ولا دخان مسموم، تقضي على جراثيم الأمراض؛ ويطهِّر هواؤها المنعش الرئات ويقوّي أوكسجينها الدم، وتهب الوجوه جمالًا تعجز عن مثله مساحيق المدينة في معاهد التجميل؛ مياهها عذبة صافية كالزلال، تلذّ الشاربين، تشفي المعدات الكسلانة من كسلها، وتزيل الأسقام وتقوّي الأجسام.

   ما أحلاكِ يا حياة القرية! وما أطيب العيش في أرجائك! فيكِ ترتاح نفسي وتنبسط جوارحي، وأنجو من سموم جوّ المدينة وبعض مفاسدها. ومهما اشتدّ تعب جسدي فيكِ، فإنّ بضع ساعات رقاد تزيل كلّ آثاره!

                                       يوسف س. نويهض